بعد فصل شتاء قياسي من عدة نَواح، يبدو أن الغطاء الجليدي البحري للقطب الشمالي في طريقه إلى أن يصل إلى حدوده العليا الشتوية الأصغر على الإطلاق. ففي يوم 28 من شهر فبراير الماضي، كان الجليد يغطي مساحة تبلغ 14.525 مليون كيلومتر مربع؛ ما يقل عن متوسط الفترة ما بين عام 1981، وعام 2010 بمقدار 938,000 كيلومتر مربع. والآن، يقوم العلماء باستخدام تقنية جديدة؛ للحصول على معلومات مهمة عن طبقة الجليد ـ في زمن مقارِب للزمن الحقيقي ـ التي يقل سُمْكها؛ وذلك من أجل التنبؤ بالتغيرات المستقبلية بشكل أفضل.
يبدو أن أنماط تغيُّر الطقس قصيرة الأجل، وأنماط تغيُّر المناخ طويلة الأجل ستؤدي مجتمعةً إلى بضعة أشهر استثنائية، حتى بمقاييس القطب الشمالي. تقول جينيفر فرانسيس، وهي عالمة متخصصة في علم المناخ في جامعة روتجرز في نيو برونزويك بولاية نيو جيرسى: «سيكون فصل الشتاء الحالي موضوع بحث لسنوات عديدة قادمة.. فهناك عدد غير عادي من الأحداث المنضمة إلى المشهد، لم يسبق لها أن ظهرت مع بعضها من قبل».
تشمل هذه الأحداث نمط الطقس «إل نينيو»، الذي يضخ الحرارة والرطوبة عبر الكرة الأرضية، وتذبذب المنطقة القطبية الشمالية، وهو نمط مناخي واسع النطاق، تسببت تغيُّراته في الشهور الأخيرة في دفع الهواء الدافئ نحو الشمال. يؤدي هذان العاملان معًا إلى تفاقم الانحسار طويل الأمد، الذي يحدث في الجليد البحري في القطب الشمالي، والذي كان قد انكمش بنسبة %3 في المتوسط في شهر فبراير من كل عام، منذ بدء تسجيلات الأقمار الصناعية في عام 1979.
وقد قامت سلسلة من موجات الهواء ذي الضغط العالي ـ الموجود على حواف الساحل الغربي للولايات المتحدة ـ بتوجيه أنظمة الطقس حول كاليفورنيا، التي كانت قد أصابتها موجة من الجفاف؛ ليدفع بموجة من الدفء في اتجاه الشمال. وتبعًا لذلك.. يقل الجليد البحري في بحر بيرنج هذا العام على وجه الخصوص. وتضيف فرانسيس: «في الوضع الطبيعي، يكون الجليد عادةً كثيفًا وباردًا، لكننا بدلًا من ذلك.. نرى مساحات مفتوحة من المياه».
وفي شهر ديسمبر الماضي، تسببت عاصفةٌ في تعقيد الموقف، إذ دفعت الهواء الساخن الذى ترتفع درجة حرارته بأكثر من 20 درجة مئوية فوق المتوسط نحو القطب الشمالي. وفي شهر يناير، تسببت موجة حارة ـ دَفَعَها تَذَبْذُب المنطقة القطبية الشمالية ـ في رفع درجة حرارة الهواء فوق أغلب المحيط المتجمد الشمالي. وبحلول شهر فبراير، كان الجليد قد بدأ فى الدوران فى اتجاه عقارب الساعة حول حوض القطب الشمالي، وعبر مضيق فرام، حسب ما قالته جوليين سترويف، وهي باحثة في المركز الوطني الأمريكي لبيانات الثلوج والجليد «NSIDC» فى بولدر بكولورادو.
وبالأخذ في الاعتبار صعوبة التنبؤ بطقس منطقة القطب الشمالي، فإن انخفاض الحدّ الأعلى للجليد لا يعني بالضرورة توقُّع حدوث ذوبان منخفض بشكل استثنائي في هذا الصيف، عندما يصل الجليد البحري إلى معدله السنوي الأقل (فقد حدث أكبر ذوبان صيفي مسجَّل في عام 2012، وهو عام لم تحدث فيه ظاهرة «إل نينيو»)، لكن الآن، يملك الباحثون أداة جديدة لتعقُّب تغيرات هذا العام فور حدوثها؛ وهي القياسات التقريبية المفصلة الأولى لكثافة الجليد، التي أُخذت في الزمن الحقيقي تقريبًا، باستخدام القمر الصناعي الخاص بوكالة الفضاء الأوروبية «CryoSat-2».
تقوم حاليًّا ثلاث مجموعات بحثية بحساب كثافة جليد القطب الشمالي، من خلال بيانات القمر الصناعي، لكن بفارق زمني شهر واحد على الأقل. ومن شأن الحسابات التقريبية السريعة لشركات الشحن أن تسمح بتخطيط المسارات بشكل أفضل عبر منطقة القطب الشمالي، كما ستسمح للعلماء بتحسين توقعاتهم ذات المدى الأطول لسلوك الجليد. وحسب قول راشيل تيلينج، الباحثة في مجال الجليد البحري بجامعة كلية لندن: «كلما أمكنك الحصول على تقديرات لكثافة الجليد البحري تلك بشكل أسرع، استطعتَ البدء سريعًا في تجميعها في صورة نماذج، ووضع توقعات مناسبة أكثر حول ما سوف يحدث فى المستقبل».
قامت راشيل وزملاؤها بتطوير طريقة أسرع؛ للحصول على معلومات حول كثافة الجليد، باستخدام القمر الصناعي «CryoSat-2»، (انظر: «عصا القياس»)، الذي يقوم بقياس الكثافة، عن طريق مقارنة الوقت الذي تستغرقه إشارات الرادار، لترتدّ من على سطح الجليد في الوقت الذي تستغرقه للارتداد من على سطح مساحات المياه المفتوحة. في الوضع الطبيعي، سيستغرق الأمر من مشغِّلي القمر الصناعي عدة أشهر؛ لحساب مداره الدقيق، وبالتالي المواقع الدقيقة للجليد والماء التي مرّ عليها. وبدلًا من ذلك.. تقوم مجموعة تيلينج بعمل تحليل سريع للبيانات المدارية، ثم تقوم بدمجه مع معلومات مرصودة في الزمن الحقيقي تقريبًا حول تركيز الجليد، مجمَّعة من المركز الوطني الأمريكي لبيانات الثلوج والجليد، ومعلومات حول نوع الجليد، مجمَّعة من الخدمة النرويجية للأرصاد الجوية (R. L. Tilling et al. Cryosphere Discuss. http://doi.org/bcw5; 2016).
تَنْتُج عن ذلك قياسات لكثافة الجليد في غضون ثلاثة أيام فقط، تبلغ حدود دِقَّتها حوالي %1.5، نسبةً إلى القياسات التي تم الحصول عليها بعد ذلك بعدة أشهر. وبذلك.. تُعَدّ دورة فصل الشتاء الحالي هي أول موسم كامل للبيانات المرصودة في الزمن الحقيقي تقريبًا. وجدير بالذكر أنه لا يمكن إتمام هذه القياسات في فصل الصيف، حيث تشوِّش البحيرات الذائبة على سطح الجليد على القمر الصناعي.
وقد بدأت تيلينج فى التحدث مع شركات الشحن، من بين آخرين من المهتمين باستخدام البيانات فور صدورها. وتقول: «إنه عهد جديد حقًّا للقمر الصناعي CryoSat-2».
من المتوقع أن تقوم بيانات كثافة الجليد الأكثر دقة بتحسين نماذج المناخ، ومَنْح تنبؤات أفضل للتأثيرات المحتملة للجليد البحري السميك أو الرفيع، وفقًا لقول ناثان كورتز؛ وهو عالِم متخصص في مجال الغلاف الجليدي في مركز جودارد للطيران الفضائي ـ التابع لوكالة ناسا ـ فى جرين بلت بولاية ميريلاند. ويساعد كورتز في قيادة مشروع «أيسبريدج» IceBridge ـ التابع لوكالة ناسا ـ الذي كان من المقرر أن يبدأ فى إطلاق الطائرات شمال جرينلاند في الشهر الماضي؛ لقياس كثافة الجليد باستخدام أشعة الليزر، وكاميرا تعمل بالأشعة تحت الحمراء، تستطيع كشف حرارة المياه الكامنة تحته.
من جانبه، يقول ديفيد باربر ـ المتخصص في مجال الجليد البحري فى جامعة مانيتوبا في ونيبيج بكندا ـ إن قياسات الكثافة قد زادت أهميتها أكثر من أي وقت مضى، نظرًا إلى كون المنطقة القطبية الشمالية تتغير باستمرار. وكان باربر وزملاؤه قد أفادوا العام الماضي بأنّ مساحات المياه المفتوحة تتزايد على حافة طبقة جليد القطب الشمالي كل شهر على مدار السنة (D. G. Barber et al. Prog. Oceanogr.139, 122–150; 2015).
ويضيف باربر: «تظهر مساحات المياه المفتوحة في الشتاء بشكل أكبر مما كنا نتوقع. وتحدث هذه التغيرات بشكل سريع جدًّا، ولا أعتقد أن الناس على وعي كافٍ بمدى التأثيرات السريعة التي تلحقها».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق