رحم الله الأستاذ العقادالذي قال: إذا استعصى عليك أمر فاستشر طفلك. عبارة تسترعي كل ذي بال، وتستوقف كل عاقل. ولا شك أن نتائج الواقع الذي تحياه أمتنا حاليًا هو من معطيات التربية بشكل عام وتربية الطفل بشكل خاص، وليس ثمة فرق بين التربية والتعليم غير أن المصطلح الأول يحتوي على المصطلح الثاني فضلًا. هناك عبارات قديمة قدم كل من يرددها، وهي: (الأطفال هم المستقبل - الأمل في الشباب- رعاية الأطفال مهمة)، ونعوت كثيرة لهذه العبارات لا نفتأ ننطق بها كلما استدعى المقام ذكرها. وفي الواقع يغيب عن أذهان معظمنا التفكير في مضمون هذه العبارات بمنأى عن المجاراة والتشدق؛ أقصد في سياق عملي يرى كيفية تفعيل هذه المعاني ومحاولة فهمها بشكل عملي قابل للتطبيق.
لقد فتش الغرب منذ الإرهاصات الأولى للنهضة عن مفاتيح التقدم والرقي، فوجدوها مجسدة في الحضارة الإسلامية التي قامت على سواعد المدرسة المحمدية التي جعلت أسسها التربية الصحيحة للنشء ودعائمها الرحمة والتسامح، فقد أخبر خير البشر المعصوم صلى الله عليه وسلم «ليس منا من لا يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا». إذا كان تقدم وازدهار بعض الأمم الآن يعتبره البعض لغزًا محيرًا أو سرًا مجهولاً؛ فإن الحقيقة بعيدة عن ذلك تمامًا، فمفتاح النهضة والإبداع في أيدي كل منا وهو صناعة عقول وفكر أبنائنا من مرحلة ما قبل المدرسة التي تعد مرحلة مهملة في أذهاننا ولانلقي لها بالًا؛ فالأطفال الأسعد حظًا قد يجدون رعاية صحية وجسدية من الاهتمام بتغذية الأبدان, وغاب عن معظمنا أن التفكير يُرب�'ى ويتغذى مثل الجسم تمامًا, وإهمال ذلك عواقبه وخيمة يترتب عليها مستقبل أمة شرفها الله سبحانه وتعالى بقيادة الأمم يوم القيامة.
لقد ذكر واطسون أحد زعماء المدرسة السلوكية: أنه بإمكاننا أن نقوي شخصية الطفل أو نحطمها قبل سن الخامسة.
فإذا تفهمت الأسر والمربون معًا طبيعة الطفل وخصائصه في هذه المرحلة فسيكون التعامل معه إيجابيًا ومثمرًا ويؤهله -أقصد الطفل-- ذهنيًا بشكل جيد يؤسس لآليات تفكيره في المستتقبل.
إن مرحلة ما قبل المدرسة هي أهم مراحل التشكيل الذهني للطفل؛ حيث يبدأ في سن الثالثة في الشعور بالذات، وأنه قد أصبح شيئًا مختلفًا عن الآخرين له كيان منفصل، ويمثل هذا الشعور أزمة للطفل يطلق عليه العلماء أزمة الشعور بالذات أو استقلال الشخصية. يحيا الطفل في هذه السن في عالم واقعي ضيق جدًا لا يزيد عن المحيط الذي يحيا فيه متمثلًا في الأم والأب والإخوة وبعض الأقارب المقربين وبعض الأطعمة والملابس والدمى، وبعض المؤثرات التي تحيط به مثل: البرد والحر.....إلخ.
ويحاول اكتشاف عالمه يومًا بعد يوم، وعلى الطرف الآخر يكون خياله عالمًا فسيحًا يمزجه بالواقع البسيط فتأتي ردود أفعاله غريبة أحيانًا وغير متوقعة أحيانًاأخرى، ولكن على أي مستوى هي غير مألوفة وملفتة للنظر. وفي الواقع قد يدهش الكبار من تصرفات الأطفال ولكن هذا الدهش يزول إذا فطنوا - أقصد الكبار- لخصائص هذه المرحلة، وعرفوا أن روافد فكر الأطفال هي مزيج من الخيال الخصب والواقع البسيط؛ لذا تكون هذه المرحلة من أهم مراحل التأسيس لمهارات التفكير العليا.
ونظرًا لأن الطفل ما زال في مرحلة انتقالية من الاستقلال النفسي والذهني عن الكبار فنجد أنه يلجأ إليهم دائمًا ويستعين بهم حتى في لعبه، ويطلب منهم مشاركته في اللعب، كما يزداد فضوله وتكثر أسئلته التي قد لا يجد الكبار إجابة عنها كثيرًا نظرًا- كما سلف ذكره - لأنها مزيج بين الواقع والخيال، وهنا على وجه التحديد قد تبدأ- إن جاز التعبير - المأساة الحقيقية في عمر الطفل العقلي؛ حيث يصطدم الطفل في الغالب بردود أفعال من الكبار مزيج بين الإهمال وعدم الاكتراث أو السخرية والضحك أو النهر والتصريح بعدم وجود وقت لمثل هذه التفاهات، وإذا كان الطفل أسعد حالاً وولد في بيئة مثقفة؛ فإنه يجد بعض نظرات الاستحسان المعبرة عن الإعجاب بالذكاء والتفكيرالجيد.
ولكن رغم هذا كله فإنه يندر أن نجد من بيننا من يلتفت نظره لطفله الذي يستشعر فيه هذا الفضول ويحاول أن يتجاوب معه ويسأل ذوي الاختصاص أو يقرأ ليتفهم طبيعة التعامل مع هذه التصرفات الطفولية التي تبدو بسيطة رغم أنها نتاج لعمليات ذهنية يقوم بها الطفل غاية في التعقيد. فهل يعلم الآباء أن أطفالهم في هذه السن إذا كانوا في بيئة صحية محفزة يستطيعون اكتساب من 700- 800 مفردة جديدة، وأن كل طفل يطرح على نفسه حوالي 300 سؤال يوميًا يبحث لها عن حلول، ولا يعجب البعض إذا عرفوا أن الاطفال إذا وفر لهم الآباء قدرًا من الخبرة في حل هذه الاسئلة والتعامل معها فسيحققون إنجازات كبيرة تفوق ما يحققه الكبار، والتجارب واضحة وجلية ليست في منأى عن أحد ؛ فهناك إحدى الشركات العالمية الشهيرة في صناعة الساعات دهشت عندما وجدت وكيلها الياباني قد أوكل صناعة الساعات الموجودة في السوق باسم هذه الشركة لـ500 طفل يعملون معه.
ومن أدلة رغبة الطفل غير المتناهية في التعلم وحب الاستطلاع والاستعدادات الذهنية المتميزة؛ هو خوضه الدائم لغمار المجهول؛ فما يقع تحت يده شيء إلا ويقلبه يمينًا ويسارًا، ويهزه تارة ويحاول فتحه تارة أخرى ولا يتركه إلا إذا سبرغوره.
وعلى النقيض من ذلك نجده يعزف عن الأشياء القديمة التي عرفها فلا تسترعي انتباهه، وسرعان ما يلقيها جانبًا؛ وهنا يتهم أطفالنا من قبل الكبار بأنهم مفسدون وعندئذ يواجهون بالتعنيف الذي يصل كثيرا إلى الإيذاء البدني فضلًا عن قتل آليات التفكير لديهم.
والآباء إذا فطنوا لذلك وتجاسروا للصبر وتحمل تبعيات التربية والمسؤولية التي أوكلها الله إليهم، ووضعوا أطفالهم في بيئة مليئة بذلك العالم المجهول وقدموا لهم الألعاب التي تحتاج تفكيرًا وجهدًا ذهنيًا للتعامل معها فسيفجرون طاقاتهم، ولا نذهب بعيدًا، فقد نرى بعض الأطفال الذين سنحت لهم فرص التعامل مع جهاز الكمبيوتر في الصغر قد حققوا إنجازات عظيمة عُد�' بعضها سبقًا في هذا المجال.
وبناءً عليه فإنه إذا راعىالآباء والمربون الآتي فإن الصورة - طبقًا لنتائج البحوث العلمية - سوف تكون أفضل بمشيئة الله:
- الانتباه لهذه المرحلة المهمة -من سن 3-6 سنوات - ومعرفة خصائصها، وتقدير مدى خطورتها.
- الإيمان الحقيقي بأن التربية، لابد أن يتم التعامل معها برؤى جديدة تتناسب مع مستحدثات العصر ما دامت لا تتعارض مع مبادئ ديننا الحنيف.
- احترام عقلية الطفل وتقديرها وعدم الاستهانة بها.
- تحويل البيت إلى بيئة تعلم حيوية من خلال توفير المفردات الحسية للتعلم مثل الكمبيوتر والألعاب الذهنية لاستنفار طاقات الطفل في الجوانب الإيجابية.
- إشاعة جو من الديمقراطية في الاستماع للطفل وتلبية كل احتياجاته العاطفية والذهنية.
- متابعة نمو الطفل وملاحظة مظاهر التميز أو النكوص التي تظهر عليه والتعامل معها بإيجابية وعدم التحرج من اللجوء إلى أهل الاختصاص.
- الإيمان بأن كل عمل إيجابي تقوم به مع طفلك يلقي بظلاله الوارفة على مستقبله وآليات تفكيره
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق